فصل: تفسير الآية رقم (23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (18- 20):

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)}
اختلف النحويون في رفع {مَثَلُ} فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر مضمر، التقدير: وفيما يتلى عليكم أو يقص {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} ثم ابتدأ فقال: {أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ} أي كمثل رماد {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}.
وقال الزجاج: أي مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم أعمالهم كرماد، وهو عند الفراء على إلغاء المثل، التقدير: والذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد. وعنه أيضا أنه على حذف مضاف، التقدير: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، وذكر الأول عنه المهدوي، والثاني القشيري والثعلبي ويجوز أن يكون مبتدأ كما يقال: صفة فلان أسمر، ف {مَثَلُ} بمعنى صفة. ويجوز في الكلام جر {أَعْمالُهُمْ} على بدل الاشتمال من {الَّذِينَ} واتصل هذا بقوله: {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} والمعنى: أعمالهم محبطة غير مقبولة. والرماد ما بقي بعد احتراق الشيء، فضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. والعصف شدة الريح، وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى.
وفي وصف اليوم بالعصوف ثلاثة أقاويل: أحدها- أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به، لأن الريح تكون فيه، فجاز أن يقال: يوم عاصف، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، والبرد والحر فيهما. والثاني- أن يريد {فِي يَوْمٍ عاصِفٍ} الريح، لأنها ذكرت في أول الكلمة، كما قال الشاعر:
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف يريد كاسف الشمس فحذف، لأنه قد مر ذكره، ذكرهما الهروي. والثالث- أنه من نعت الريح، غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب، ذكره الثعلبي والماوردي. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر {في يوم عاصف}. {لا يَقْدِرُونَ} يعني الكفار. {مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ} يريد في الآخرة، أي من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا، لإحباطه بالكفر. {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي الخسران الكبير، وإنما جعله كبيرا بعيدا لفوات استدراكه بالموت. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} الرؤية هنا رؤية القلب، لأن المعنى: ألم ينته علمك إليه؟. وقرأ حمزة والكسائي- خالق السماوات والأرض. ومعنى {بِالْحَقِّ} ليستدل بها على قدرته. {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيها الناس، أي هو قادر على الإفناء كما قدر على إيجاد الأشياء، فلا تعصوه فإنكم إن عصيتموه {يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أفضل وأطوع منكم، إذ لو كانوا مثل الأولين فلا فائدة في الإبدال. {وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي منيع متعذر.

.تفسير الآيات (21- 22):

{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)}
قوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} أي برزوا من قبورهم، يعني يوم القيامة. والبروز الظهور. والبراز المكان الواسع لظهوره، ومنه امرأة برزة أي تظهر للناس، فمعنى، {بَرَزُوا} ظهروا من قبورهم. وجاء بلفظ، الماضي ومعناه الاستقبال، وأتصل هذا بقوله: {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي وقاربوا لما استفتحوا فأهلكوا، ثم بعثوا للحساب فبرزوا لله جميعا لا يسترهم عنه ساتر. {لِلَّهِ} لأجل أمر الله إياهم بالبروز. {فَقالَ الضُّعَفاءُ} يعني الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم القادة. {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} يجوز أن يكون تبع مصدرا، التقدير: ذوي تبع. ويجوز أن يكون تابع، مثل حارس وحرس، وخادم وخدم، وراصد ورصد، وباقر وبقر. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ} أي دافعون {عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي شيئا، و{مِنْ} صلة، يقال: أغني عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. {قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ} أي لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه.
وقيل: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. وقيل، لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. {سَواءٌ عَلَيْنا} هذا ابتداء خبره {أَجَزِعْنا} أي: {سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ} أي من مهرب وملجأ. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر، وبمعنى الاسم، يقال: حاص فلان عن كذا أي فر وزاغ يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا، والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يقول أهل النار إذا أشتد بهم العذاب تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا هلم فلنجزع فيجزعون ويصيحون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا: {سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ}».
وقال محمد بن كعب القرظي: ذكر لما أن أهل النار يقول بعضهم لبعض: يا هؤلاء! قد نزل بكم من البلا والعذاب ما قد ترون، فهلم فلنصبر، فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا، فطال صبرهم فجزعوا، فنادوا: {سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ}
أي منجي، فقام إبليس عند ذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} يقول: لست بمغن عنكم شيئا {وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} الحديث بطوله، وقد كتبناه في كتاب التذكرة بكماله. قوله تعالى: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} قال الحسن: يقف إبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا. ومعنى: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} أي حصل أهل الجنة في الجنة واهل النار في النار، على ما يأتي بيانه في مريم عليها السلام. {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فأخلفتكم. وروي ابن المبارك من حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الشفاعة قال: «فيقول عيسى أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافرون قد وجه المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فاشفع لنا فإنك أضللتنا فيثور مجلسه من أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم ويقول عند ذلك: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الآية». {وَعْدَ الْحَقِّ} هو إضافة الشيء إلى نعته كقولهم: مسجد الجامع، قال الفراء قال البصريون: وعدكم وعد اليوم الحق أو وعدكم وعد الوعد الحق فصدقكم، فحذف المصدر لدلالة الحال. {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} أي من حجة وبيان، أي ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته لكم في الدنيا، {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أي أغويتكم فتابعتموني.
وقيل: لم أقهركم على ما دعوتكم إليه. {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} هو استثناء منقطع، أي لكن دعوتكم بالوسواس فاستجبتم لي باختياركم، {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} وقيل: {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} أي على قلوبكم وموضع إيمانكم لكن دعوتكم فاستجبتم لي، وهذا على أنه خطب العاصي المؤمن والكافر الجاحد، وفية نظر، لقوله: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} فإنه يدل على أنه خطب الكفار دون العاصين الموحدين، والله أعلم. {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} إذا جئتموني من غير حجة. {ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي بمغيثكم. {وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي بمغيثي. والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ هو المغيث. قال سلامة بن جندل:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ** وكان الصراخ له قرع الظنابيب

وقال أمية بن أبي الصلت:
ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ ** وليس لكم عندي غناء ولا نصر

يقال: صرخ فلان أي استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة. واصطرخ بمعنى صرخ. والتصرخ تكلف الصراخ. والمصرخ المغيث، والمستصرخ المستغيث، تقول منه: استصرخني فأصرخته. والصريخ صوت المستصرخ. والصريخ أيضا الصارخ، وهو المغيث والمستغيث، وهو من الأضداد، قاله الجوهري. وقراءة العامة {بِمُصْرِخِيَّ} بفتح الياء. وقرأ الأعمش وحمزة {بمصرخي} بكسر الياء. والأصل فيها بمصرخيين فذهبت النون للإضافة، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل التضعيف، ولأن ياء الإضافة إذا سكن ما قبلها تعين فيها الفتح مثل: هواي وعصاي، فإن تحرك ما قبلها جاز الفتح والإسكان، مثل: غلامي وغلامتي، ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر، لأن الياء أخت الكسرة.
وقال الفراء: قراءة حمزة وهم منه، وقل من سلم منهم عن خطأ.
وقال الزجاج: هذه قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف.
وقال قطرب: هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء. القشيري: والذي يغني عن هذا أن ما يثبت بالتواتر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يجوز أن يقال فيه هو خطأ أو قبيح أو ردئ، بل هو في القرآن فصيح، وفية ما هو أفصح منه، فلعل هؤلاء أرادوا أن غير هذا الذي قرأ به حمزة أفصح. {إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}أي كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة، ف {لَمَّا} بمعنى المصدر.
وقال ابن جريج: إني كفرت اليوم بما كنتم تدعونه في الدنيا من الشرك بالله تعالى. قتادة: إني عصيت الله. الثوري: كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا. {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
وفي هذه الآيات رد على القدرية والمعتزلة والإمامية ومن كان على طريقهم، انظر إلى قول المتبوعين: {لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ} وقول إبليس: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} كيف اعترفوا بالحق في صفات الله تعالى وهم في دركات النار، كما قال في موضع آخر: {كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها} [الملك: 8] إلى قوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 11] واعترافهم في دركات لظى بالحق ليس بنافع، وإنما ينفع الاعتراف صاحبه في الدنيا، قال الله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] و{عسى} من الله واجبة.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)}
قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ} أي في جنات لأن دخلت لا يتعدى، كما لا يتعدى نقيضه وهو خرجت، ولا يقاس عليه، قاله المهدوي. ولما أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة أيضا. وقراءة الجماعة {أُدْخِلَ} على أنه فعل مبني للمفعول. وقرأ الحسن {وأدخل} على الاستقبال والاستئناف. {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي بأمره.
وقيل: بمشيئته وتيسيره. وقال: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} ولم يقل: بإذني تعظيما وتفخيما. {تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ} تقدم في يونس والحمد لله.

.تفسير الآيات (24- 25):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} لما ذكر تعالى مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، ذكر مثل أقوال المؤمنين وغيرها، ثم فسر ذلك المثل فقال: {كَلِمَةً طَيِّبَةً} الثمر، فحذف لدلالة الكلام عليه. قال ابن عباس: الكلمة الطيبة لا إله إلا الله والشجرة الطيبة المؤمن.
وقال مجاهد وابن جريج: الكلمة الطيبة الإيمان. عطية العوفي والربيع بن أنس: هي المؤمن نفسه.
وقال مجاهد أيضا وعكرمة: الشجرة النخلة، فيجوز أن يكون المعنى: أصل الكلمة في قلب المؤمن- وهو الإيمان- شبهه بالنخلة في المنبت، وشبه ارتفاع عمله في السماء بارتفاع فروع النخلة، وثواب الله له بالثمر. وروي من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة الإيمان عروقها والصلاة أصلها والزكاة فروعها والصيام أغصانها والتأذي الله نباتها وحسن الخلق ورقها والكف عن محارم الله ثمرتها}. ويجوز أن يكون المعنى: أصل النخلة ثابت في الأرض، أي عروقها تشرب من الأرض وتسقيها السماء من فوقها، فهي زاكية نامية. وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: أتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقناع فيه رطب، فقال: {مثل كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها}- قال: «هي النخلة» {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ}- قال: «هي الحنظل». وروي عن أنس قوله وقال: وهو أصح. وخرج الدارقطني عن ابن عمر قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ} فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أتدرون ما هي» فوقع في نفسي أنها النخلة. قال السهيلي ولا يصح فيها ما روي عن علي بن أبي طالب أنها جوزة الهند، لما صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن عمر«إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن خبروني ما هي- ثم قال- هي النخلة» خرجه مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره إلا يحيى فإنه أسقطه من روايته. وخرجه أهل الصحيح وزاد فيه الحارث بن أسامة زيادة تساوي رحلة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «وهى النخلة لا تسقط لها أنملة وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة». فبين معنى الحديث والمماثلة وذكر الغزنوي عنه عليه السلام: «مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك وإن جالسته نفعك وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به». وقال: «كلوا من عمتكم» يعني النخلة خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام، وكذلك أنها برأسها تبقي، وبقلبها تحيا، وثمرها بامتزاج الذكر والأنثى. وقد قيل: إنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان شبهت به، وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت الغصون من جوانبها، والنخلة إذا قطع رأسها يبست وذهبت أصلا، ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوان في الالتقاح لأنها لا تحمل حتى تلقح قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة». والأبار اللقاح وسيأتي في سورة الحجر بيانه. ولأنها من فضلة طينة آدم. ويقال: إن الله عز وجل لما صور آدم من الطين فضلت قطعة طين فصورها بيده وغرسها في جنة عدن. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أكرموا عمتكم قالوا: ومن عمتنا يا رسول الله؟ قال: النخلة». {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ} قال الربيع: {كُلَّ حِينٍ} غدوة وعشية كذلك يصعد عمل المؤمن أول النهار وآخره، وقاله ابن عباس. وعنه {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ} قال: هو شجرة جورة الهند لا تتعطل من ثمرة، تحمل في كل شهر، شبه عمل المؤمن لله عز وجل في كل وقت: بالنخلة التي تؤتي أكلها في أوقات مختلفة.
وقال الضحاك: كل ساعة من ليل أو نهار شتاء وصيفا يوكل في جميع الأوقات، وكذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها.
وقال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة، لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره، وأنشد الأصمعي بيت النابغة:
تناذرها الراقون من سوء سمها ** تطلقه حينا وحينا تراجع

فهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت، فالإيمان ثابت في قلب المؤمن، وعمله وقوله وتسبيحه عال مرتفع في السماء ارتفاع فروع النخلة، وما يكسب من بركة الإيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها، من الرطب والبسر والبلح والزهو والتمر والطلع.
وفي رواية عن ابن عباس: إن الشجرة شجرة في الجنة تثمر في كل وقت. و{مَثَلًا} مفعول ب {ضَرَبَ}، و{كَلِمَةً} بدل منه والكاف في قوله: {كَشَجَرَةٍ} في موضع نصب على الحال من {كَلِمَةً} التقدير: كلمة طيبة مشبهة بشجرة طيبة.
الثانية: قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ} لما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة كان في ذلك بيان حكم الحين، ولهذا قلنا: من حلف ألا يكلم فلانا حينا، ولا يقول كذا حينا إن الحين سنة. وقد ورد الحين في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك لقوله تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] قيل في التفسير: أربعون عاما. وحكى عكرمة أن رجلا قال: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر، فأتى عمر بن عبد العزيز فسأل، فسألني عنها فقلت: إن من الحين حينا لا يدرك، قوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} [الأنبياء: 111] فأرى أن تمسك ما بين صرام النخلة إلى حملها، فكأنه أعجبه، وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعا لعكرمة وغيره. وقد مضى ما للعلماء في الحين في البقرة مستوفي والحمد لله. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ} أي الأشباه {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ويعتبرون، وقد تقدم.